ما سر العداء المتأصل بين روسيا والغرب؟

4٬012

من أجل فهم الصراع المتنامي بين الغرب وروسيا لا بد من العودة إلى السياق التاريخي الذي ساهم في إزكاء هذا العداء في المقام الأول. فعندما أعلن ميخائيل كيرولاريوس، بطريرك القسطنطينية، الانفصال عن سلطة الكنيسة الغربية ليصبح امبراطوراً وبطريركاً مساوياً لبابا روما، مدعياً أن البابوية في روما تعاني من الضعف والفساد، أفضى ذلك إلى إحداث انقسام حاد في الكنيسة المسيحية، فيما سمي آنذاك بالانشقاق الكبير، وكان ذلك في العام 1054م. ولعل ذلك ما تسبب لاحقاً في زلزال قوي أصاب العلاقات الروسية الأوروبية.

أيضاً كان لروسيا تاريخ حافل بالاعتداءات على جيرانها الأوروبيين. فمنذ عهد القيصر بطرس الأكبر تبلورت ملامح هذا النهج. إذ أرسى هذا الأخير قواعد استراتيجية واضحة في هذا الإطار وتبنتها الحكومات المتعاقبة فيما بعد. وتقضي تلك الاستراتيجية بتوسيع رقعة روسيا، بحيث  تصل إلى البحر الأسود في الجنوب وبحر البلطيق في الشمال الغربي والتطلع للاستيلاء على القسطنطينية. فروسيا تعتبر نفسها وريثة الامبراطورية البيزنطية ودولة الكنيسة الأرثوذكسية. ومن هذا المنطلق، فلا بد  أن تكون لها زعامة النصارى الأرثوذكس في العالم.

ولتحقيق تلك الغاية، تواصلت اعتداءات روسيا على أوروبا، حيث وصلت تلك الاعتداءات إلى كل من السويد وبرلين وفرنسا وبولندا وأوكرانيا.

وعند إنشاء الاتحاد السوفيتي لم يتورع الروس آنذاك عن الاعتداء على دول الجوار، بما فيها دول البلطيق وشرق بولندا ودول شرق أوروبا. وخلال الحرب العالمية الثانية وصلت اعتداءاتها إلى كل من بولندا وفنلندا.

في الواقع، كانت روسيا، وعبر تاريخها الحافل بالمد والجزر السياسي، أكثر استبدادية وتقلباً من أي من نظرائها السابقين، في ظل وفرة الموارد والسكان وجيش عملاق قوي بما يكفي لكسر شوكة فرنسا وتدمير جيش نابليون والقضاء على أحلامه الرامية إلى تنصيب نفسه امبراطوراً على سائر أوروبا.

وإبان الحرب العالمية الثانية، لم يبد الاتحاد السوفيتي نوايا حسنة في فتح صفحة جديدة مع الغرب، وذلك عندما قام بالاحتفاظ بالشطر الشرقي من ألمانيا.

فيما تسببت سلسلة أحداث أخرى في تنامي الخوف والقلق الأوروبي إزاء النفوذ الروسي، وأخذت الحكومات الأوروبية المتعاقبة تبحث عن حل ناجع في هذا الإطار من شأنه أن يستجيب لمخاوفها تلك.

فنظرت إلى الشراكة مع الولايات المتحدة القوية اقتصادياً وعسكرياً كأمر لا مناص منه للتصدي لأطماع الروس والارتقاء بالقدرات الأوروبية على نحو كفيل بالوقوف ضد نهوض ألمانيا.

كان لدى الاتحاد السوفيتي في تلك الحقبة الآلاف من الرؤوس الحربية النووية، هذا فضلاً عن قدرات عسكرية لا يستهان بها كقوة عالمية، ولم يكن “نمراً من ورق”، كما كان يشاع سابقاً.

وهكذا باتت روسيا بمثابة الوريث الشرعي الوحيد لذلك الكيان المتين والصلب بعد تفككه. وإبان نجاح الرئيس فلاديمير بوتين في تخطي مشاكل روسيا الاقتصادية، أراد إعلان شأنها من جديد كقوة عظمى تحظى بالقدرات عينها التي تحظى بها الولايات المتحدة. ولقد تمخض ذلك النهج عن زيادة الانفاق العسكري، ليحتل الجيش الروسي الموقع الثالث بعد الصين والولايات المتحدة، من حيث حجم الاستثمار في العتاد الحربي.

ولا يدخر بوتين جهداً لترهيب جيرانه الأوروبيين من خلال استعراضه لقوة بلاده العسكرية النووية، تارة، والتقليدية، تارة أخرى، لتذكيرهم بأن روسيا لا تزال قوية بما يكفي لبث الرعب والقلق في نفوسهم وزلزلة نظامهم الأمني المتزعزع.

ولعل ذلك ما أسهم في تعزيز مخاوف الدوائر السياسية والمحللين الغربيين على حد سواء، وأشارت دراسة صدرت عن مؤسسة راند في العام 2016 إلى حقيقة مفادها أن القوات الروسية يمكنها السيطرة على دول البلطيق بأسرها في غضون أقل من أسبوع. فيما سيواجه الناتو صعوبة في مجاراتها بالسرعة نفسها.

ولقد أدى هذا الطرح إلى إزكاء لظى الهستيريا المتصاعدة بشأن القدرات العسكرية الروسية، وأفضى لاحقاً إلى  نشر وحدات خاصة من حلف الناتو  في دول البلطيق، بناء على توصيات تقرير راند.

فيما تعاني الدول الأوروبية العديد من التحديات الداخلية، ولعل أبرز تلك التحديات يتمثل في تباطؤ نمو كثير من اقتصاداتها، وارتفاع حجم الدين في كثير من مؤسساتها السياسية. هذا فضلاً عن تلك التحديات الجسام المتعلقة بقضايا الهجرة والمخاطر المحتملة والمتأتية من إمكانية حدوث هجمات إرهابية. والأهم من ذلك ما يعانيه عدد منها من مواطن الضعف السياسي الذي يزكيه صعود الأحزاب الشعوبية وأحزاب اليمين المتطرف وتصاعد المخاوف من إمكانية استغلال روسيا لقضايا الأقليات الروسية في دول البلطيق.

وخلال العقد الماضي، شهد الاتحاد الأوروبي تحولًا تدريجيًا في سلطة اتخاذ القرارات من المؤسسات الفيدرالية للاتحاد الأوروبي إلى الحكومات الوطنية. فالدول الأعضاء وبشكل منفرد تمارس انتقائية في الامتثال للمعايير الأوروبية، وذلك بما يتماشى ومصالحها الاقتصادية والأمنية. والأهم من ذلك، أن العلاقات داخل الناتو بين أمريكا وحلفائها ليست على ما يرام، في ظل تصاعد الخطاب الأميركي بالابتعاد أكثر عن الحلف.

وفي الواقع، فإن الكره ليس نتاجاً طبيعياً بل هو حصيلة سلسلة من الممارسات والخطط الاستراتيجية الرامية إلى تعزيزه. ومن أجل الاستمرار في ذلك النهج، كان لا بد من  الاستثمار طويلاً في إزكاء هذا العداء وإعادة إشعاله من كلا الجانبين بين الفينة والأخرى.

ويذهب الخبراء في الشأن الروسي إلى القول بأن توسيع حلف الناتو يرمي بالمقام الأول إلى مواجهة النفوذ الروسي المتنامي ومطالبة روسيا بضمانات أمنية كفيلة بإزالة القلق المترتب عن ذلك.

غير أنه وبالرغم من مرور ما يربو على سبعين عاماً على إنشاء حلف الناتو لمواجهة صعود ألمانيا والوقوف في وجه تمدد القوة السوفيتية الضاربة، إلا أن ألمانيا تمكنت من النهوض وتكريس نفسها كأكبر اقتصاد بين جيرانها الأوروبيين. فيما أثخنت روسيا جراح الأوروبيين من خلال الارتقاء باقتصادها إلى آفاق غير مسبوقة وتعزيز قدرات جيشها وقوته الصاروخية الضاربة، معتمدة في ذلك على عاملين اثنين: الإيرادات النفطية، من جهة، وحنكة “بوتين” في التعامل مع الملفات الشائكة، من جهة أخرى.

وعلى غرار الحرب الباردة، تبرز المواجهة التاريخية بين روسيا بوتين والغرب إلى الواجهة مجدداً. فمنذ احتلال القرم، أيقن الغرب برمته أن مساعيه الحثيثة والرامية إلى تقييم قدرات روسيا السياسية والمخابراتية والعسكرية باءت جميعها بالفشل وعلى نحو مزر للغاية.

ومن هذا المنطلق، بادرت الغالبية العظمى من مراكز الأبحاث الأمنية والسياسية في الدول الغربية إلى وضع استراتيجية صلبة وواضحة في هذا الإطار ترمي في المقام الأول إلى إجراء دراسات معمقة حول الشأن الروسي. ناهيك عن إجراء تقييم حقيقي للقدرات العسكرية الروسية وتلك السياسية، وإلى أي مدى يمكن لهذه القدرات أن تهدد الأمن الأوروبي بوجه عام. هذا فضلاً عن طرح مقاربات أكثر دقة على التنبؤ بالقدرات الروسية في المجالات كافة، وبالإمكانات المتاحة أمام الرئيس فلاديمير بوتين، ذلك الخصم العنيد العتيد، الذي أزكى المخاوف الأوروبية من عودة التهديد الروسي.

وتبقى الحقيقة الراسخة في هذا الإطار بأن الغرب سيستمر في نهجه الرامي إلى التعامل مع روسيا مدفوعاً بالريبة، وذلك ما يتعارض مع نظرة روسيا لتاريخها ومكانتها الحالية.

وستظل العلاقات المستقبلية بين الطرفين خاضعة لما يعرف بظاهرة “روسوفوبيا” أو العداء المتأصل  لروسيا وكل ما يمت إليها، وخاصة النظام السياسي أو عادات الاتحاد السوفيتي السابق.

 

ولكن هل ستغير الأزمة الأخيرة مع أوكرانيا من تلك المعادلة؟
وهل سيتنبه الغرب ومن ورائهم المارد الأمريكي إلى ضرورة إحداث
تغيير جذري في هذا النهج، لا سيما في ظل تنامي نفوذ التنين الصيني؟

 

الأشهر القادمة كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال المحير؟ فكما يقال: “إن غداً لناظره قريب”. لننتظر ونترقب ونرى….

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط للارتقاء بأداء الموقع وتجربتكم في الوقت عينه فهل توافقون على ذلك؟ قبول الاطلاع على سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط